مهما كان منظور المرء إلى “الأدب العالمي” Weltliteratur، ومهما اختلف فهمه لهذا “المفهوم” عن فهم نظرائه، فإنه لا محالة سيواجه مسألة الترجمة، بوصفها الوسيلة الأكثر أهمية في استكشاف “آداب الآخر”، إذ تستحيل الإحاطة بهذه الآداب، حتى على متعدِّدي اللغة، دون الاستعانة بالترجمة.
ولذا كان من الطبيعي أن ينشغل غوتة بها، وهو المسؤول الأبرز عن نشر هذا المفهوم والترويج له في مختلف أنحاء أوربة، ولاحقاً في مختلف أنحاء العالم، خلال القرنين الماضيين، وبخاصة في الولايات المتحدة الأمريكية التي اتخذت من “الأدب العالمي“ أداة، بل نافذة يطل منها الأمريكيون على عوالم “الآخر”، وأدخلته دوائرُها الجامعية مقرراً مهماً من مقررات أقسام الآداب واللغات في أبرز جامعاتها.
والحقيقة أن انشغال غوتة بالترجمة متعدد الوجوه، فقد انشغل بها بوصفها:
- وسيلة للتعارف الأدبي بين متعلِّمي أوربة، ولتوثيق الصلات الثقافية المتبادلة ما بين الأمم والشعوب، فهي، مثل الدراسة والتعريف، من أهم أشكال التوسّط بين آداب الأمم المختلفة. ذلك أن الأدب العالمي، كما يفهمه غوته، من أنجع الوسائل في التأسيس لتعارف حقيقي بين الأمم والشعوب، خاصة وأن الأدب القومي غالبا ما يفصح بصدق عن روح الأمة، أو الشعب، أو القوم، المنتجين له.
ففي رسالة إلى توماس كارلايل صاحب كتاب “الأبطال“، تعود إلى 1 كانون الثاني 1827، يسأل غوته عن ترجمة إنكليزية لمسرحيته تاسو من جانب Des Voeux:
“أود أن أعرف رأيك إلى أي مدى يمكن عدّ تاسو (مترجمة إلى الإنكليزية) إنكليزية، ستجعلني ممتناً لك على نحو كبير بإعلامي عن هذه النقطة؛ لأن هذه الصلة ما بين الأصل والترجمة وحدها التي تعبر بأقصى درجات الوضوح عن الصلة ما بين أمة وأمة، والتي على المرء أن يعرفها، فوق كل شيء، إذا ما كان يرغب في تشجيع أدب عالمي مشترك يتجاوز التخوم القومية”.
وفي معرض الحديث عن الخدمة المزدوجة التي يقوم بها المترجم: تجاه أمة اللغة المصدر من جانب، وتجاه أمة اللغة الهدف من جانب آخر، يشير غوته إلى أن المترجم لا يخدم أمته فقط عندما يُيَسِّر لأبنائها آثاراً أدبية أو علمية أنتجها أبناء أمة أخرى ويوطِّنُها في ثقافة أمته لتزداد بها حيوية، وتغنى بمحتواها، ولكنه كذلك يخدم الأمة التي يُترجم آثارها عندما يلفت أنظار أبنائها إلى أهمية ما أنتجوه، وإلى وجوه في هذا الإنتاج غابت عنهم بسبب إلفتهم لها، وباتت جدَّ عادية لا تستحق الاهتمام الواجب، في حين تظفر بهذا الاهتمام في ثقافة الهدف التي ترجم لأبنائها هذا الإنتاج.
وملاحظة غوته هذه جدُّ مهمة، والمتتبع لتاريخ العلاقات الأدبية بين الأمم والشعوب يستطيع أن يتبيَّن صدقها فيما لا يحصى من الأمثلة. ولعل أبرز مثال عليها كتاب ألف ليلة وليلة، الذي لم ينل ما يستحقه من اهتمام في الثقافة العربية، ولم يلتفت باحثو العربية ونقاد أدبها إلى أهميته بوصفه رائعة عالمية وكتاباً كونياً إلا بعد ترجمته إلى الفرنسية على يد أنطوان غالان وانتشاره انتشار النار في الهشيم في أوربا أولاً، ومن ثم في مختلف بقاع العالم لاحقاً.
لمتابعة القراءة يمكن تحميل الملف بالضغط على رابط التحميل في أعلى الصفحة!