على الرغم من أن إدوارد سعيد كان على مدى أربعين عاماً يُدرِّس الأدب الإنكليزي والأدب المقارن في جامعة كولومبيا في نيويورك، فإنه بمنظوره الطباقي contrapuntal perspective قد وأد الدرس المقارن للأدب الذي ساد في أيامه، عندما دمج “الآخر/غير الغربي” في منظوره الطباقي، ودعا إلى الإصغاء إلى صوته الخافت الذي تجاهلته المركزية الغربية، وإلى تظهيره بغرض إعادة الوحدة إلى المقاربة المقارِنة للأدب، ضمن إطار ما بات يعرف بـ “النظرية ما بعد الاستعمارية“، والتي دشن جدواها بكتابه الاستشراق (1978)، وعزز حضورها في المشهد النقدي الأمريكي خاصة، والعالمي عامة، بكتابه الثقافة الإمبريالية(1993) ، فضلاً عن كتبه ومقالاته الأخرى. وعندما خلفته غاياتري شاكرافورتي سبيفاك في النهوض برسالة الدرس المقارن للأدب في جامعة كولومبيا، أعلنت بكتابها موت علم (2003) وفاة الدرس المقارن للأدب بالطريقة التقليدية، والتي نبذها سعيد بسبب مركزيتها الغربية، ودعت إلى أدب مقارن جديد يجمع ما بين الأدب المقارن وبين دراسات المنطقة Area Studies ، ممهدة بذلك الطريق نحو إعادة نظر جذرية في تصور الدرس المقارن للأدب، وبخاصة صلته بالأدب العالمي الذي عانى على مدى ما يقرب من قرنين من المركزية الغربية Western Centrism . وهكذا شهدت التسعينيات في القرن الماضي تفكيراً جديداً في الأدب المقارن أعاد فيه منظِّروه “الأدب العالمي” إلى المركز في الدراسات المقارنة، حتى غدا الدرس المقارن للأدب مجرد ممارسة في دراسة الأدب العالمي تؤكد ما سبق إليه ويليك عندما أصرّ على أن الأدب المقارن ليس غير دراسة الأدب من منظور عالمي يتجاوز الحدود اللغوية والسياسية والعرقية لهذا الفن الجميل.
وتجدُّدُ الاهتمام هذا الذي بدأ في عقد التسعينات من القرن الماضي، كما يشير إلى ذلك تيو داهائين D’haen Theo وسيزر دومينغز Dominguez Cesar ومادس روزندال تومسِن Mads Rosendahl Thomsen في “مدخلهم” إلى المجلد الجامع للبيانات المتصلة بـ “الأدب العالمي“. تجلّى بدفق هائل، يكاد يشبه الانهيار الثلجي، للمختارات والكتب والدراسات والمقالات المعنية بالأدب العالمي، وبنشاطات ثفافية وأكاديمية غنية متنوعة، مثلما تجلّى بالمحاولات العديدة لإعادة تعريفه انطلاقاً من حوارات معمقة ومناقشات واسعة وقراءات مختلفة لبيانات غوته عن الأدب العالمي، والسعي، في الوقت نفسه إلى تطوير مقاربات جديدة لنصوصه ومسائله التي تثيرها هذه البيانات.
وفي مسعى مشكور لتفسير تجدد هذا الاهتمام يقترح محررو هذا المجلد عاملين مهمين (على الرغم من وجود عوامل أخرى أقل أهمية)، يكمنان وراءه، وهما:
- العولمة Globalization وما خلفته من آثار في مفهومي الثقافة والهوية، خاصة وأنه، في ظل التوسع الهائل في مجالات التبادل الثقافي، باتت الحاجة ملحة للنظر في دور الأدب ووظيفته خارج حدود الدولة القومية، وخارج ما ارتبط بها من “أدب قومي”، غدا بدوره موضع مساءلة شديدة .
- وإعادة التنظيم الداخلي للدراسة الأدبية في أقسام اللغات القومية والأجنبية في الجامعات الغربية بتحفيز من العولمة من جانب والنظريات الفكرية والنقدية والأدبية التي شهدها ما يسمى عصر النظرية من جانب آخر.
فقد كان “الأدب العالمي” يُدرّس في أقسام الأدب المقارن، ويدرج في برامجه، أو في أقسام اللغات الحديثة، غير أن هذه الأقسام لم يكن لها من سعة الصدر ما يكفي لاحتواء الأدب العالمي، ومن ثَم فإنها أخفقت إخفاقاً ذريعاً في مهمتها في دراسة آداب العالم، بسبب الحجم الهائل لنصوص هذه الآداب من جهة، وبسبب من ضعف اهتمامها بالآداب الصغيرة، آداب الجنوب والشرق والعالم الثالث عامة، والتي تُركت العناية بها إلى الأقسام المختصة بلغاتها وثقافاتها، أو أقسام ومراكز الدراسات الإقليمية، أو دراسات المنطقة، من جهة أخرى. وهكذا انتهى المطاف بأقسام الأدب المقارن واللغات الحديثة بالأدب العالمي إلى قصرالعناية بهذا الأدب على مجموعة مختارة من روائعه المترجمة إلى الإنكليزية بشكل خاص، والمتمركزة حول الذات أو الذوات الغربية. علما أن كثرة متزايدة من نصوص آداب العالم غير الغربية قد أخذت طريقها إلى لغات العالم الأول عن طريق الترجمة وأصبحت ميسورة بالإنكليزية والفرنسية والألمانية وسواها، ولكنها ظلت، مع ذلك، خارج دائرة الأدب العالمي التي اقتصرت في معظمها على الآداب الغربية.
شكرا على تصفحك واهتمامك بهذه المادة. لقراءة كامل المادة يمكن تحميل الملف بالضغط على رابط التحميل في أعلى الصفحة!