لقد تحددت خصائص الأطوار الثلاثة الأولى من البحث الشكلي بإيجاز كما يلي: (1)تحليل وجوه الصوت في الأثر الأدبي؛ (2)مشكلات المعنى ضمن إطار الشعرية أو نظرية الأدب الداخلية Poetics (3)دمج الصوت والمعنى في كُلِّ غير قابل للانفصال.وخلال هذا الطور الأخير كان مفهوم السائد Dominant the مثمراً على نحو خاص.كان واحداً من أكثر المفاهيم خطورة،وتطوراً،وإنتاجية في النظرية الشكلية الروسية. ويمكن أن يُعرّف السائد بأنه المكوِّنُ المركز لأثر فني: إنه يحكم، ويُحدَّد، ويُحول المكوِّنات الأخرى. والسائد هو ما يضمن وحدة البنية.
إن السائد يخصص الأثر. ومن الواضح أن الصفة المحدِّدة للّغة المقيَّدة هي نسقها النثري، شكلها الشعري، وقد يبدو هذا ببساطة تحصيل حاصل الشعر شعر.ولكن ينبغي أن نستحضر في الذهن باستمرار أن العنصر الذي يُحدِّد تنويعةً معطاةً من اللغة يسودُ البنية كلها، وبالتالي يقوم بمهمة مكوَّنها الإلزامي المخصوص، سائداً جميع العناصر الباقية وممارساً تأثيراً مباشراً فيها. والشعر بدوره ليس مفهوماً بسيطاً، وليس وحدة قابلة للتقسيم. الشعر ذاته نظام للقيم؛ وله، كما هو الشأن في أي نظام للقيم، هرمه الخاص به من القيم المتفوقة والمتدنية، وقيمة واحدة رئيسية، هي القيمة السائدة التي لا يمكن دونها للشعر(ضمن إطار فترة أدبية معطاة، واتجاه فني معطى)أن يُتَصوَّر و يُقَوَّم على أنه شعر. فعلى سبيل المثال لم تكن علامة الشعر التي لا يُنازَع فيها في الشعر التشيكي في القرن الرابع عشر المخطط المقطعي، وإنما القافية؛ حيث وجدت قصائد ذات عدد غير متساو من المقاطع في البيت(اصطلح على تسميتها بالأشعار الخالية من المقياس)وتُصُوِّرَت-مع ذلك-على أنها أشعار. في حين إن الأشعار غير المقفاة لم تكن مقبولة أثناء تلك الفترة. ومن ناحية أخرى كانت القافية في الشعر الواقعي التشيكي في النصف الثاني من القرن التاسع عشر تقنية يمكن الاستغناء عنها، في حين كان المخطط المقطعي مكوِّناً إلزامياً غير منازَع، ودونه لم يكن الشعر شعراً؛ ومن وجهة نظر تلك المدرسة حُكِمَ على الشعر الحر بأنه اضطراب غير مقبول. وبالنسبة لتشيكي اليوم الذي نشأ على الشعر الحر الحديث، لا القافية ولا النسق المقطعي لا زمان للشعر، وبدلاً من ذلك يتألف المكوِّن الإلزامي من الوحدة التنغيمية-التنغيم يغدو سائدَ الشعر. وإذا ما كان لنا أن نقارن الشعر الموزون النظامي لشعر الـAlexandreis التشيكي القديم، والشعر المقفى للفترة الواقعية، والشعر الموزون المقفى للعصر الحاضر، فإننا سنلاحظ، في الحالات الثلاث جميعها، العناصر نفسها-القافية، والمخطط المقطعي والوحدة التنغيمية-ولكن هرمية مختلفة من القيم، عناصرمختلفة محددة إلزامية لا غنى عنها. إن هذه العناصر المحددة ذاتها هي بالضبط التي تحدِّد دورَ المكوِّنات الأخرى وبُنيتها.
وقد نلمس السائد ليس فقط في الأثر الشعري لفنان فرد، وليس فقط في القانون الشعري، أي في مجموعة معايير مدرسة شعرية معينة، وإنما في فن حقبة معينة منظور إليها على أنها كُلٌّ محدَّد. فعلى سبيل المثال، من البيّن في عصر النهضة أن سائداً كهذا، أن ذروة كهذه من المعايير الجمالية للعصر، قد مثلتهما الفنون البصرية. وأن الفنون الأخرى نفسها قد وُجِّهَت نحو الفنون البصرية، وقُوِّمت تبعاً لدرجة قربها من هذه الأخيرة. ومن ناحية أخرى، كانت القيمة العليا في الفن الرومنتي تُعزى للموسيقى. وهكذا وُجِّه الشعر الرومنتي نفسه نحو الموسيقى: فبيته مركزاً موسيقياً، وتنغيمه الشعري يحاكي اللحن الموسيقي. إن هذا التركيز على سائد خارج في الحقيقة عن العمل الشعري يُغَيّر على نحو ملموس بنية القصيدة، فيما يتصل بالنسيج الصوتي، والبنية التركيبية، والصور؛ إنه يعدّل معايير القصيدة الوزنية والمقطعية Stnophic وتأليفها. وفي الجماليات الواقعية كان السائد هو الفن اللفظي، وقد عُدِّلت هرمية القيم الشعرية تبعاً لذلك.
وأكثر من هذا، فإن تعريف الأثر الفني، بالمقارنة مع مجموعات أخرى من القيم الثقافية، يتغير على نحو ملموس بمجرد أن يغدو مفهوم السائد نقطة انطلاقنا. فالصلة، على سبيل المثال، مابين عمل شعري ورسائل لفظية أخرى تكتسب تحديداً أكثر دقة. فمعادلة عمل شعري بوظيفة جمالية، أو، على نحو أكثر دقة، بوظيفة شعرية-بمقدار تعاملنا مع مادة لفظية- خصيصة لتلك العصور التي تنادي بفن صاف مكتف بذاته، الفن من أجل الفن “l’art pour l’art” . وفي الخطوات الأولى للمدرسة الشكلية، كان لا يزال ممكناً ملاحظةُ آثار مميزة لمعادلةٍ كهذه. ولكن هذه المعادلة خاطئة دون شك: فالعمل الشعري ليس مقصوراً على الوظيفة الجمالية وحدها، ولكن له، بالإضافة إلى ذلك، وظائف أخرى كثيرة. والواقع أن مقاصد العمل الشعري غالباً ما تكون وثيقة الصلة بالفلسفة، وفن التعليم الاجتماعي وغيرهما، ومثلما لا يُستغرَقُ العمل الشعري بالوظيفة الجمالية، فإن الوظيفة الجمالية، وعلى نحو مماثل، ليست مقصورة على الأعمال الشعرية؛ فكلمة الخطيب، والمحادثة اليومية، والمقالات الصحفية، والإعلانات، والرسالة العلمية، جميعها قد يوظف اعتبارات جمالية، ويُعبِّر عن وظيفة جمالية، ويستخدم في الغالب كلمات بذاتها، ومن أجل ذاتها، وليس بوصفها مجرد وسيلة إشارية.
وفي معارضة مباشرة لوجهة النظر الأحادية الصريحة،(توجد) وجهة النظر الآلية التي تتبين تعددية وظائف العمل الشعري وتُقَوِّم ذاك العمل، بمعرفة أو على نحو غير مقصود، بوصفه تكتلاً من الوظائف. ولأن للعمل الشعري وظيفة إشارية أيضاً، فإنه يُعَدّ أحياناً من جانب أتباعُ وجهة النظر الأخيرة وثيقة صريحة للتاريخ الثقافي، أو الصلات الاجتماعية، أو السيرة. ومقابل الأحادية الوحيدة الجانب، والتعددية الوحيدة الجانب، يوجد هناك وجهة نظر تجمع، إلى الوعي بالوظائف المتعددة للعمل الشعري، استيعاباً لوحدته؛ وبعبارة أخرى، تلك الوظيفة التي توحّد العمل الشعري وتحدّده. إن العمل الشعري من وجهة النظر هذه لا يمكن أن يعرّف بأنه عمل يؤدي وظيفة جمالية خالصة ولا وظيفة جمالية مصاحبة لوظائف أخرى؛ إن العمل الشعري يُعرَّف بالأحرى بأنه رسالة لفظية وظيفتها الجمالية هي السائدة فيها. وبالطبع فإن العلامات المعلنة عن إنجاز الوظيفة الجمالية ليست غير قابلة للتغير، أو موحَّدة دائماً. فكل قانون شعري مجسّد، وكل مجموعة من المعايير الشعرية الزمنية، تتضمن على أي حال عناصر متميزة لا غنى عنها، لا يمكن دونها تحديد هوية العمل بأنه عمل شعري.
ويسمح تعريف الوظيفة الجمالية، بأنها السائد في العمل الشعري، لنا بتحديد هرمية الوظائف اللغوية المتنوعة ضمن العمل الشعري. ففي الوظيفة الإشاريةrefrential ، يكون للعلاقة صلة داخلية دنيا بالشيء المعيّن بها، ولذا فإن العلاقة في حد ذاتها لا تحمل إلا أهمية دُنيا فقط؛ ومن ناحية أخرى فإن الوظيفة التعبيرية expressive تتطلب صلة أكثر مباشرة وحميمية بين العلامة والشيء، وبالتالي انتباهاً أكبر للبنية الداخلية للعلامة. وبالمقارنة مع اللغة الإشارية، فإن اللغة الانفعالية emotive language التي تؤدي بشكل رئيسي وظيفة تعبيرية، وكقاعدة، أقربُ إلى اللغة الشعرية(التي تُوجَّه نحو العلامة بوصفها علامة). وغالباً ما تتداخل اللغة الشعرية واللغة الانفعالية فيما بينهما، ولذا فإن هذين الشكلين من أشكال اللغة غالباً مايجري تماهيهما على نحو خاطئ تماماً. وإذا ما كانت الوظيفة الجمالية هي السائدة في رسالة لفظية، فإن هذه الرسالة عندئذ يمكن أن تستخدم بالتأكيد العديد من وسائل اللغة التعبيرية، ولكن هذه المكونات تكون عندئذ خاضعة للوظيفة المحددة للعمل، وتتحوّل بفعل سائده.
لقد كان للبحث في السائد نتائج هامة بالنسبة لآراء الشكليين في التطور الأدبي. ففي تطور الشكل الشعري ليست القضية قضية اختفاء عناصر معينة وانبثاق عناصر أخرى بمقدار ما هي قضية تحولات في الصلات المتبادلة ما بين المكونات المتنوعة للنظام، وبعبارة أخرى بمقدار ماهي قضية السائد المتحول. فضمن مُرَكبَّ معطى من المعايير الشعرية بشكل عام، أو ضمن مجموعة المعايير الشعرية الصالحة لجنس شعري معين بشكل خاص، تغدو العناصر- التي كانت أصلاً ثانوية- أساسية ورئيسية. ومن ناحية أخرى، فإن العناصر، التي كانت أصلاً العناصر السائدة، تصبح فرعية واختيارية. وفي الأعمال المبكرة لشكلوفسكيSklovoskij عُرِّف العمل الشعري بأنه جملة وسائله الفنيةartistic devices ، بينما بدا التطور الشعري ليس أكثر من استبدال لوسائل معينة. ومع التطور اللاحق للشكلية، نشأ التصور الصحيح للعمل الشعري بوصفه نظاماً بنيوياً، أو مجموعة هرمية من الوسائل الفنية المحكومة بشكل منتظم. والتطور الشعري هو تحول في الهرمية. فهرمية الوسائل الفنية تتغير ضمن إطار جنس شعري معطى، وأكثر من هذا، فإن التغير يؤثر في هرمية الأجناس الأدبية، و-على نحو متزامن-في توزيع الوسائل الفنية ضمن الأجناس المفردة. فالأجناس التي كانت أصلاً طرقاً ثانوية، تنويعات جانبية، تتقدم الآن إلى الأمام، في حين تُدفَع الأجناس المعترف بها إلى الخلف. إن أعمالاُ شكلية عديدة تتناول الفترات المفردة للتاريخ الأدبي الروسي من وجهة النظر هذه ففوكوفسكيGukovskij يحلل تطور الشعر في القرن الثامن عشر؛ وتينيانوفTynjanov وآيخنباومEjxenbaum ، متبوعين بعدد من تلاميذهما، يتفحصان تطور الشعر والنثر الروسيين خلال النصف الأول من القرن التاسع عشر؛ وفيكتور فينوغرادوفViktor Vinogradov يدرس تطور النثر الروسي مبتدئاً بغوغول، وآيخنباوم يعالج تطور نثر تولستوي تجاه أرضية النثرين الروسي والأدبي المعاصرين. وتتغير صورة التاريخ الأدبي الروسي على نحو ملموس؛ إنها تغدو، وعلى نحو لا يمكن مقارنته، أغنى، وفي الوقت ذاته، أكثر توحداً، وأكثر تركيبية، وتنظيماً، من الـmembra disjecta للبحث الأدبي السابق.
وعلى أي حال، فإن مشكلات التطور ليست مقصورة على التاريخ الأدبي. إذ تنشأ كذلك مسائل متصلة بالتغيرات في الصلات المتبادلة بين الفنون المفردة، وتمحيص المناطق الانتقالية هنا مثمر على نحو خاص؛ تحليل المنطقة الانتقالية بين الرسم و الشعر مثل الرسم التوضيحيillustration ، أو تحليل منطقة الحدود بين الموسيقى والشعر مثل الرومانسromanace, على سبيل المثال .
وأخيراً تنشأ مشكلات التغيير في الصلات المتبادلة بين الفنون والميادين الثقافية المتصلة بها على نحو وثيق، وخاصة مايتعلق بالصلات المتبادلة بين الأدب والأنواع الأخرى للرسائل اللفظية. وعدم استقرار الحدود، والتغيير في مضمون الميادين الفردية ومداها، متوِّازن على نحو خاص هنا. وتتمتع الأجناس الانتقالية بأهمية خاصة بالنسبة للمختصين. فأجناس كهذه في فترات معينة تُقوَّم على أنها فوق -أدبية extra-literay وفوق -شعريةextra-poetic،في حين إنها في فترات أخرى قد تؤدي وظيفة أدبية مهمة لأنها تشتمل على تلك العناصر التي يوشك أن يؤكد الأدب بمعناه الفني belles-lettres،بينما تكون الأشكال الأدبية المعترف بها محرومة من هذه العناصر. وأمثال الأجناس الانتقالية هذه هي، على سبيل المثال، الأشكال المختلفة للأدب الحميمLittérature intime-الرسائل، اليوميات، كتب الملاحظات، ومحاضرات الرحلات المصورة travelogues والتي تؤدي، في فترات معينة، (على سبيل المثال في الأدب الروسي في النصف الأول من القرن التاسع عشر) وظيفة هامة ضمن المُركَّب الكلي للقيم الأدبية.
وبكلمات أخرى، إن التحولات المستمرة في نظام القيم الفنية تنطوي على تحولات مستمرة في تقويم الظواهر المختلفة للنص. فذاك الذي، من وجهة نظر النظام القديم، استُخِفّ به، أو حُكِمَ عليه بأنه غير كامل، أو هاو، أو شاذ غير مألوف، أو بكل بساطة خاطئ؛ أو ذاك الذي عُدَّ بدعةً، أو منحطاً، أو عديم القيمة، قد يظهر، ويُتَخذ قيمة إيجابية، من منظور نظام جديد. فأشعار الشاعرين الغنائيين الرومنتيين يتوتشيفTjutcev وفِتْ fet انتقدت من جانب النقاد الواقعيين لأخطائها ولا مبالاتها المزعومة وهكذا. وتورغينيف، الذي نشر هذه القصائد، صحح بشكل شامل إيقاعها وأسلوبها بغرض تحسنها وجعلها ملائمة للمعيار القائم. وغدا تحرير editing تورغينيف لهذه القصائد النسخة المعترف بها، ولم تُعَد النصوص الأصلية إلى وضعها السابق، وتردّ مكانتها إليها، ويعترف بها على أنها خطوة مبدئية نحو مفهوم جديد للشكل الشعري، إلا في العصور الحديثة. وفقيه اللغة التشيكي ج، كرالj.kral رفض شعر إربنErben وتشيلاكوفسكي celakovsky لأنه خاطئ ومهَلهْل من وجهة نظر المدرسة الواقعية في الشعر، في حين إن العصر الحديث يمدح في هذه الأشعار، وبالتحديد، بسبب تلك القسمات التي أُدينت من أجلها باسم القانون الواقعي. وأعمال المؤلف الموسيقي الروسي العظيم موسورغسكي Musorgskij لم تتماثل مع متطلبات التوزيع الموسيقي المعمول به في أواخر القرن التاسع عشر، وأستاذ التقنية التأليفية المعاصر، ريمسكي-كورساكوف kimskij-korsakov عدّلها تبعاً للذوق السائد لعصره؛ ولكن الجيل الجديد روّج القيم-الفتح التي وفّرها “اللاصقل” لدى موسورغسكي وغيبتها إلى حين تصحيحات ريمسكي-كورساكوف، وأزاح بالطبع إعادة اللمسات تلك من مؤلفات مثل بوريس غورونوفBoris Godunov .
لقد غدا الانتقال، التحول، في الصلة بين المكوِّنات الفنية الفردية، القضية المركزية في التفحصات الشكلية. ولهذا الوجه من التحليل الشكلي في ميادين اللغة الشعرية أهمية رياديّة بالنسبة للبحث اللغوي عامة، لأنه يقدم حوافز مهمة لتجاوز الفجوة بين المنهج التاريخي التطوري والمنهج الآني لقطاع عرضي زمني ورومها. لقد كان البحثُ الشكليُ هو الذي دلّل بشكل واضح على أن التحول والتغيير ليسا فقط بيانَيْن تاريخيين (كان هناك “أ” أولاً، وبعدها نشأت ” أ-ا ” في مكان “أ”)، بل إن التحول كذلك ظاهرة آنية معاشة على نحو مباشر، وقيمة فنية ذات صلة. إن لدى قارئ القصيدة، أو مُشاهد اللوحة، وعياً حيّاً بنظامين: القانون التقليدي، والجدة الفنية، بوصفها انحرافاً عن ذاك القانون. ومقابل أرضية التراث تحديداً يتم تصوّر الجديد. لقد وضّحت الدراسات الشكلية أن هذا الحفظ للتراث، والانفصال عنه، المتزامنين، يشكلان جوهر كل عمل فني جديد.
(1) أنظر :Roman Jakopson, “the Dominant” in his language in Literature Edited by k.pomorsk and S.rudy (Harvard University press,Cambridge,Ma.and Landon,1987) “pp.41-6.”